أطراف في المجلس الرئاسي في طرابلس بحثت الاستعانة بيهود ليبيين لتحديث عمل حكومة الوفاق وتطوير العمل المصرفي
رئيس «منظمة اتحاد يهود ليبيا»: لـ «المجلة»: لا يوجد يهود في ليبيا نهائيا منذ نحو 50 عاما … وعدد اليهود الليبيين في السابق كان نحو 40 ألفا… منهم 32 ألفا رحلوا إلى إسرائيل وثمانية آلاف عاشوا في ليبيا حتى عام 1967.
* جرى اقتراح بتعيين شخصيات من اليهود الليبيين كمستشارين في المجلس الرئاسي،والمصرف المركزي، وفي وزارتي الاقتصاد والداخلية.
* كان الليبيون متحمسين لاستقبال أبناء وطنهم من اليهود في الشهور التي تلت إسقاط القذافي… وتشجع بعض الليبيين وقاموا بفتح الباب لتسجيل اليهود العائدين في جداول الأحزاب السياسية المحلية، حتى يكون لهم الحق في خوض الانتخابات والمشاركة في إدارة الدولة.
* رئيس «منظمة اتحاد يهود ليبيا»: من أسوأ ذكرياتي مقتل عمي، وزوجته وأطفالهما السبعة، حين كانوا في مدينة سرت، إثر التداعيات الشعبية لنتائج الحرب العربية الإسرائيلية في أواخر الستينات.
* جرى اعتقال ما يزيد على ألفي يهودي ليبي، واحتجازهم في «معسكر جادو» قرب طرابلس، في بداية الأربعينات، حيث لقي نحو 600 يهودي مصرعهم في هذا المعسكر.
* في العاصمة الليبية هناك حارتان ما زالتا شهيرتين، وتحملان عبق الزمن القديم. الأولى تعرف باسم «حارة اليهود الكبرى» والثانية «حارة اليهود الصغرى». وتوجد «حارات» مماثلة في مدن ليبية أخرى.
«جبنا له عروسة وجينا.. خللي هالدنيا تزهيله».. وتضرب الأصابع على الإيقاع، بينما تردد جوقة من أصوات شباب وفتيات مقاطع هذه الأغنية باللهجة الليبية المحلية. وتحتفي الكلمات بما قامت به أسرة العريس من اختيار عروسه، وكيف أن الدنيا يمكن في هذه الحالة أن تزهى له.
لكن هذا الحفل الفلكلوري الصغير كان في مكان يبعد عن ليبيا آلاف الكيلومترات. إنه في بلدة كيبك في كندا. وبعد قليل فاحت روائح الطعام الليبي الشعبي في الحديقة الخلفية للفندق. إنهم مجموعة من الأسر الليبية اليهودية التي تفرقت بها السبل عبر العالم منذ أكثر من نصف قرن من الزمان.
هذه تفاصيل رواية تعود إلى شهور قليلة قبل الانتفاضة المسلحة ضد حكم معمر القذافي. فقد اختار أحد رجال الأعمال الليبيين الكبار، من ذوي الأصول الطرابلسية، ويدعى حسين، الانتقال بعيدا عن العالم، لكي ينسى هموم الدنيا، وينسى الحنين إلى الوطن، والخلافات، والأعمال التجارية.
لوزون في ميدان البلدية في بنغازي.
ويتذكر تلك الأيام، وهو يجلس أمام حمام السباحة في قصره، في ضاحية مصر الجديدة في شرق القاهرة، قبيل انتفاضات «الربيع العربي»: كنت في ذلك الوقت أشتاق للعودة إلى طرابلس، بعد أن اضطررت إلى مغادرتها منذ سبعينات القرن الماضي، بسبب نظام الحكم الديكتاتوري. وكلما شعرت أنه لا يوجد هناك أي أمل في الرجوع إلى مسقط رأسي، كنت أختار مكانا لأعزل فيه نفسي بضعة أسابيع، وأجتر الذكريات على مهل.
وفي ذلك الوقت اختار حسين عزلته في الفندق في كيبك. ويضيف موضحا: في المساء تمددت على السرير، وبدأت أتذكر الأيام الخوالي، حين كنت صبيا في طرابلس، وكيف كنت أمر على بيوت الأصدقاء، وأحضر معهم الأعراس والأعياد، واستعيد وجوه المِلاح وأغاني البهجة. وحين سمعت صوت الإيقاعات، وصوت التصفيق المنتظم على أغنية «جبنا له عروسة وجينا..»، أعتقدت أنني نمت، وأنني أحلم بأجواء طرابلس.
لكن كان هناك طرق على باب غرفة الفندق، فنهض ووجد النادل يستأذن لإدخال قوارير مياه للشرب. وبعد لحظة من الصمت، يقول حسين: استغربت بشدة أن صوت الأغنية كان لا يزال مستمرا، رغم أنني أسير على قدمي في الغرفة. وحين شممت رائحة الطهي عرفت أنه طعام ليبي شعبي. ونزلت مسرعا دون أن أغير ملابسي، للتحقق من كل هذه الأمور. هل أنا في حلم أم في علم. لقد اعتراني شعور جارف بأنني في ليبيا.
ويقول حسين، عن هذه التجربة، إنه أدرك منذ ذلك الوقت أنه يمكنك أن تحمل قطعة من الوطن فوق ظهرك، وتستظل بها حين يضنيك التعب والحنين، إلى أن تعود لتستقر فيه يوما ما. وأصبح كثير من أبناء تلك الأسر الليبية اليهودية، أصدقاء له كلما ساقته الظروف للمرور على كيبك. ويقول: أصبح لديهم اليوم أمل كبير لزيارة ليبيا. ومنشغلون بمبادرات لإصلاح ليبيا، سياسيا واقتصاديا وثقافيا. لقد تغيرت الدنيا.
وفي الشهور الأخيرة من حكمه، الذي استمر 42 عاما، حاول معمر القذافي فتح الأبواب والنوافذ لإغراء آلاف من اليهود الذين هجروا ليبيا في ظروف دولية استثنائية، للعودة مرة أخرى إلى وطنهم الأم. وفي الوقت الراهن تسعى كثير من القوى السياسية في هذه البلاد المنقسمة على نفسها منذ رحيل القذافي، لمد خيوط الود مع رؤساء وقادة في جاليات يهودية ليبية عبر العالم، خاصة أولئك الذين لديهم مراكز اقتصادية كبيرة وعلاقات قوية في كواليس السياسة الدولية. ومن أشهر القيادات اليهودية المتمسكة بليبيتها، رفائيل لوزون.
لقد بحثت أطراف في المجلس الرئاسي في طرابلس، بشكل جدي، الاستعانة بيهود ليبيين من أجل تحديث عمل حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، وتطوير العمل المصرفي، وتحسين العمل العام إجمالا، في محاولة لإرضاء الشارع الليبي المنهك. حدث ذلك أثناء ظهور منافسين سياسيين أقوياء على الساحة، كان من بينهم عبد الباسط إقطيط، وهو رجل أعمال ليبي يعيش في الغرب منذ عقود، ولديه علاقات قوية بسياسيين في الولايات المتحدة.
وجاء إقطيط إلى ليبيا العام الماضي، ليقدم نفسه كمرشح لرئاسة الدولة. وساد اعتقاد في حكومة الوفاق ولدى مراقبين آخرين، أنه مدعوم من اليهود الليبيين. وتمكن إقطيط من تحريك المياه الراكدة بالفعل. فقد أثار الجدل في الأوساط العامة لعدة أسابيع. وهنا بدأت مشاورات بين أعضاء في المجلس الرئاسي، تقول إنه «إذا كانت قوة إقطيط تعتمد على يهود ليبيين لديهم خبرة في السياسة والاقتصاد، فنحن أولى بالاستعانة بهم، وبالتالي سحب البساط من تحت أقدام هذا المنافس».
وكان صاحب اقتراح الاستعانة باليهود الليبيين في الحكومة، ونشر فكر المصالحة بين الليبيين عموما، مسؤول في لجنة حكماء وأعيان طرابلس. وبدأ ذلك في النصف الأول من سبتمبر (أيلول) الماضي. وجرت مناقشة الأمر مع قادة في المجلس الرئاسي، في تلك الأيام، التي كان فيها إقطيط يوجه كلمات للشعب، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يدعو فيها الليبيين إلى الخروج في الميادين لإسقاط حكومة السراج.
ومثل ما هو معتاد من طموحات فردية، لم يكن اليهود الليبيون متفقين على رؤية واحدة في التعاطي مع قضية بلادهم، وتنوعت المقترحات التي تقدموا بها، وتتعلق بجهود حل الأزمة في هذا البلد المنقسم على نفسه بين عدة حكومات وقوى مسلحة. وعلى أي حال يبدو أن الكل متفق على ضرورة إحلال السلام بين كافة الأطراف المتنازعة، وتوحيد مؤسسات الدولة، والدخول في العصر الجديد. وعقدت لقاءات شتى في مدن تطل على البحر المتوسط لهذا الغرض.
ويرأس رفائيل لوزون «منظمة اتحاد يهود ليبيا»، لكنه يقول في مقابلة مطولة أجرتها معه «المجلة»: «ومع هذا أنا لا أمثل الجميع». وكان الجدل قد استمر لأسابيع في أروقة حكومة الوفاق في طرابلس عمن يسعى إلى الاستفادة من اليهود الليبيين لتحقيق أغراض سياسية. وقال أحد قادة المجلس الرئاسي في تلك المناقشة: إذا كان إقطيط يسعى للاعتماد على اليهود الليبيين في العالم، للدفع به كرئيس للبلاد، فلماذا لا نسعى نحن أيضا للتعاون مع يهود ليبيا، في الداخل والخارج، ونفشل خطته.
وجرى اقتراح بتعيين شخصيات من اليهود الليبيين كمستشارين في المجلس الرئاسي، وفي المصرف المركزي، وفي وزارتي الاقتصاد والداخلية. بيد أن معظم الأطراف الفاعلة في المجلس الرئاسي لم تتمكن من اتخاذ خطوة علنية بهذا الشأن، بسبب مخاوف من أن تتعرض لهجوم من خصومها، خاصة من التيارات التي تربط بين الليبيين من أصحاب الديانة اليهودية ودولة إسرائيل.
وفي مرات أخرى، حين تجددت فكرة الاستعانة باليهود الليبيين، كان هناك اقتراح بأن يتم ترتيب لقاءات مع زعماء من يهود ليبيا في الخارج، بعيدا عن الأضواء، أي في لندن، أو في روما، أو المغرب، أو غيرها، والاستعانة، في هذا، بشخصيات ليبية معروف عنها التعاطف مع اليهود الليبيين، خاصة من قيادات مدن طرابلس، ومصراتة، وغريان. وبالتزامن مع ذلك ظهر على المسرح اسم وزير الإعلام والثقافة الليبي السابق، عمر القويري.
كان التحضير للمستقبل، برؤى جديدة وغير معتادة، يسير جنبا إلى جنب مناقشات عن تاريخ اليهود في هذا البلد الأفريقي الغني بالثروات الطبيعية. ففي فترة من فترات الزمن الغابر، وصل عدد اليهود الليبيين إلى نحو أربعين ألفا، كما يقول لوزون.
وأدى استهداف القائد النازي أدولف هتلر، وحلفائه الإيطاليين، لليهود، في الحرب العالمية الثانية، إلى قلب الأوضاع رأسا على عقب.
مشهد من داخل المعبد اليهودي في بنغازي.
ويقول الباحث في التراث الليبي، عبد الله إبراهيم: ما زال الجيل القديم في شرق ليبيا يتذكر ليالي الأعراس التي كانت تحييها فرقة السيدة «بطة» الموسيقية، وهي فرقة غناء كانت تتكون من شخصيات ليبية يهودية ومسلمة، وتتنقل بين بلاد الجبل الأخضر لإقامة حفلات تستمر لثلاث ليالٍ. وكذلك كان هناك الشاعر الشعبي الليبي اليهودي «أربيب»، الذي كان يلقب بـ«أبو حليقة». وتعرضت مثل هذه الشخصيات، بمن فيهم من أدباء وتجار وملاك، لملاحقة من جيش الاحتلال الإيطالي لليبيا، في النصف الأول من القرن الماضي، حيث تعرضوا للقتل أو التشريد.
وما زالت توجد في كل عاصمة عربية، تقريبا، حارات تحمل اسم «حارة اليهود». وفي العاصمة الليبية هناك حارتان ما زالتا شهيرتين، وتحملان عبق الزمن القديم. الأولى تعرف باسم «حارة اليهود الكبرى» والثانية «حارة اليهود الصغرى». وتوجد «حارات» مماثلة في مدن ليبية أخرى. ويرتبط اليهود بالتراب الليبي منذ قرون، وواجهوا، مع القبائل العربية والبربرية، الظروف الصعبة التي فرضها قراصنة البحر المتوسط على المدن الساحلية الليبية قبل ألف سنة.
ومثل عائلات يهودية ليبية كثيرة، تعرضت أسرة رفائيل لوزون للتهجير من ليبيا أثناء حرب يونيو (حزيران) عام 1967. لقد انتشرت في العالم العربي، وعلى نطاق واسع، موجة كراهية ضد اليهود، بعد يونيو 1967. وتعرضت أملاك عائلات يهودية للحرق، والسلب، والنهب، في كثير من المدن العربية.
ومنذ ذلك الوقت لم يعد يوجد يهود يقيمون بشكل علني في ليبيا. وتشير بعض المصادر المحلية إلى أن بعض اليهود ربما ما زالوا يعيشون متخفين في بلدهم، لتجنب البطش بهم من جانب جهات لا تتورع عن استغلال المآسي الإنسانية لتحقيق أهداف سياسية.
وفي سؤال مباشر إلى لوزون، عن عدد اليهود الليبيين الموجودين اليوم في ليبيا، يجيب قائلا صراحة: «في الحقيقة، أقول لك، لا يوجد يهود في ليبيا نهائيا منذ نحو 50 عاما».
ويضيف موضحا: «عدد اليهود الليبيين في السابق كان نحو 40 ألفا… منهم 32 ألفا رحلوا إلى إسرائيل في الفترة من عام 1948 حتى عام 1951. والثمانية آلاف الآخرون عاشوا في ليبيا حتى عام 1967. مثل عائلتي، ثم بعد أن تم قتل عدد منهم، جرى طردهم من ليبيا.. لقد خرجت عائلتي بحقيبة واحدة، وعشرين جنيها ليبيا، لا غير».
وفي خضم تلك الأحداث تراجعت ذكريات مريرة تتعلق باستهداف ألمانيا وحليفتها إيطاليا لليهود في المنطقة العربية، في مطلع أربعينات القرن الماضي. كان من بينهم يهود ليبيون جرى قتلهم في معسكرات في غربي طرابلس، ونقل آخرين منهم قسرا خارج ليبيا. لقد شارك كثير من اليهود الليبيين، مع غيرهم من أبناء ليبيا، في العمل ضد الاحتلال الإيطالي لليبيا، بعد الحرب العالمية الأولى. ومن بين هؤلاء، رفائيل؛ جد لوزون.
تختزن ذاكرة هذا الرجل تفاصيل عن الزمن القديم، بعضها مرير، حيث يبدو من نبرة صوته أنها تستحق ذرف الدموع… وبعضها الآخر مبهج، ويؤثر على طريقته في الحديث؛ حيث تظن أنه قد امتلأ بالطرب من فرط السعادة.
من أسوأ ذكرياته مقتل عمه، وزوجة عمه، وأطفالهما السبعة، حين كانوا في مدينة سرت، إثر التداعيات الشعبية لنتائج الحرب العربية الإسرائيلية في أواخر الستينات. ومع ذلك يحتفظ بحكايات مرحة عن أيامه المبكرة على شواطئ بنغازي، منذ نحو نصف قرن.
لا شك أن لدى كل رجل أماكن معينة كان يتردد عليها أيام الصبا، ويظل يفتقدها مهما كانت الظروف. دائما يوجد في الذاكرة أولئك الرجال ذوو القسمات التي لا تُنسى، ممن تتأثر بهم وأنت طفل. وتلك الأغاني والألحان التي ملأت وجدانك وأنت تتفتح على الدنيا. ومن هنا تبدو رغبة قادة ليبيين من اليهود، في المشاركة الحثيثة لإصلاح حال ليبيا، مدفوعة بتصورات عن التآخي، وعن الجيران القدامى الطيبين، وعن الحياة الآمنة التي عاشوها مع باقي المكونات الليبية، وذلك قبل اندلاع موجة الاضطرابات الكبرى بظهور هتلر على خريطة العالم.
يقول لوزون: «لقد عشت أحسن وأجمل سنين العمر في بنغازي.. أمضيت فيها 14 سنة من طفولتي. لم أشعر يوما بتمييز، أو بسوء معاملة. كان المجتمع في بنغازي عائلة واحدة. وكنت وسطها أشعر بالأمان». إلا أنه، وبعد لحظات من الصمت، يتذكر كيف فقد أقاربه في سرت، وكيف خرج من بنغازي، مع أسرته، وليس معهم غير حقيبة واحدة وعشرين جنيها.
ولا تسير الأمور في هذه الدنيا على وتيرة واحدة. فالزمن كفيل بتغيير كل شيء. حتى لوزون نفسه لم يكن، حتى عام 2010. يصدق أنه سيأتي عليه يوم ليلتقي مرة أخرى بشوارع بنغازي القديمة، ويقفز في مياه الشاطئ، ويتبادل الحديث الودي مع القذافي وقادته الأمنيين.
والأكثر من كل هذا، والأهم، في الوقت الراهن، وجود تغير في مزاج كثيرين بشأن أحقية لعب اليهود الليبيين لدور في جهود الحوار، والمصالحة، وإحلال السلام بين الأفرقاء في ليبيا. وظهر ذلك واضحا في مؤتمر عقد صيف العام الماضي في جزيرة يونانية في البحر المتوسط. وكان الوزير القويري، وشخصيات ليبية أخرى، حاضرة في المؤتمر. لكن غالبية هؤلاء، ممن تواصلت معهم «المجلة»، ليست لديهم رغبة، في الوقت الراهن على الأقل، للحديث في الموضوع علانية. ويبدو أنهم يفضلون مواصلة العمل في صمت، بعيدا عما يسببه الإعلام من لغط.
لقد شاركت في المؤتمر شخصيات أخرى من منطقة الشرق الأوسط. ورغم انتشار موجة من الهجوم ضده، فإن مشاركين فيه، من ليبيين يهود، وغير يهود، يعدون لعقد مؤتمر جديد في المغرب في الشهور المقبلة.
وبين وقت وآخر تؤدي الظروف إلى خلق واقع مغاير. فعلى سبيل المثال، وفي ظل شعور نظام القذافي بالعزلة الدولية، كان خلال مدة حكمه المديدة، يحاول أن يثبت للعالم أن لديه القدرة على حل كثير من الملفات، سواء مع حكومات غربية تناصبه العداء، أو مع معارضين لحكمه، أو مع تجمعات يهودية ليبية مبعثرة حول العالم.
وظلت المشكلة دائما، كما ظهر أيام القذافي، وكما يظهر في هذه الأيام، في تصوير لقاءات بعض الزعماء الليبيين بقيادات من يهود ليبيا في المهجر، باعتبارها «علاقة تطبيع مع إسرائيل». ويقول لوزون: «اليهودية دين، وليست جنس. هناك ليبيون يهود، وإيطاليون يهود، وإنجليز يهود، وكذلك إسرائيليون يهود».
والموضع معقد بالفعل، منذ عقود، لأسباب تتعلق بالنزاع الفلسطيني الإسرائيلي. لكن إذا تمكن الليبيون من فتح الأبواب والنوافذ للتأسيس لواقع جديد، في التعامل مع اليهود الليبيين، والاستفادة من إمكانياتهم، فهذا يمكن أن يؤثر على كثير من الترتيبات في منطقة الشرق الأوسط. ويقول لوزون إن ما يهم اليهود الليبيين في الوقت الراهن وقف الاقتتال بين أبناء الوطن الواحد. ويقر بأن جهود رأب الصدع التي قام بها يهود ليبيون تأثرت بالسلب بالحروب التي وقعت في طرابلس وبنغازي في السنوات الأربع الأخيرة.
ورغم ذلك تقدم بعض أعضاء المجلس الرئاسي الليبي لحكومة الوفاق، قبل عدة شهور، خطوات في اتجاه الاستعانة باليهود الليبيين في حل كثير من المشاكل الداخلية، مدفوعين بمغامرات قام بها سياسيون ليبيون مثل إقطيط، وقام بها متنفذون سابقون مثل الوزير القويري، وقام بها باحثون محليون ذكروا صراحة أن الشاعر الشعبي الكبير «أبو حليقة»، يهودي ليبي. بيد أن هذه الخطوات ما زالت مرتبكة.
ويقول لوزون: «كانت لنا لقاءات مع المجلس الرئاسي الليبي، لكنها متوقفة الآن». ويضيف: «للأسف الشديد كل شيء كان يسير بشكل جيد، مع المجلس الرئاسي، حتى بدأ يظهر في وسائل الإعلام شيء يشبه الخوف من الاتصال مع اليهود، حتى لو كانوا ليبيين. والآن لم يعد هناك اتصال مع السراج بطريقة رسمية، مثل السابق».
لقد كان الليبيون متحمسين لاستقبال أبناء وطنهم من اليهود في الشهور التي تلت إسقاط القذافي. وتشجع بعض الليبيين وقاموا بفتح الباب لتسجيل اليهود العائدين في جداول الأحزاب السياسية المحلية، حتى يكون لهم الحق في خوض الانتخابات والمشاركة في إدارة الدولة. حتى لوزون نفسه مر بهذه التجربة التي لم تكتمل.
ويقول: «بعد ذلك تفجرت الحروب بين الليبيين، وارتفعت أصوات في ليبيا تقول لا نريد اليهود، وأن اليهود صهاينة، وإسرائيليين، وموساد، وغيره». ويضيف: «للأسف الشديد هناك من يرفض أن يكون اليهود الليبيون من الحركة السياسية، ومن النسيج الاجتماعي الليبي».
ويوضح مسؤول أمني في طرابلس: التعامل مع اليهود، منذ عهد القذافي، كان بطبيعة الحال أمرا شائكا، وهو أصبح أكثر صعوبة مع حكومة السراج في الوقت الراهن، بسبب انتشار وسائل الإعلام، ووسائل التواصل عبر الإنترنت. نعم أصبح هناك قادة يرون ضرورة تغيير طريقة التعاطي مع قضية اليهود الليبيين، لكن هناك زعماء آخرين يخشون من خسارة مواقعهم إذا تمادوا في هذا الدرب.
ويضيف مصدر مقرب من المجلس الرئاسي، قائلا إن المعتاد هو أن كل حكومة، في دولة ما من دول العالم، تحاول أن تستفيد من الأوراق التي لديها.. «أعتقد أن بعض مسؤولينا في الفترة الأخيرة يسعون للاستفادة.. فهؤلاء (اليهود) في النهاية ليبيون». ويشير المصدر نفسه إلى أن «فتح الموضوع أمام الرأي العام يتطلب شجاعة، فالقانون الليبي أعطى، منذ عام 1952. الحق في حمل الجنسية الليبية لليهود في ليبيا، كما نص على حرية العقيدة واحترام جميع الشعائر الدينية».
ويضيف أن «القذافي حين بدأ يستقبل قادة من يهود ليبيا في مطلع تسعينات القرن الماضي، كانت الظروف مختلفة في داخل البلاد، فهو كان صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، على أي حال، ولا يمكن أن تتوقع معارضة لما كان يقوم به. أما اليوم فحكومة السراج أمام مجتمع منفتح، وله صوت، وبين يديه هواتف مربوطة بشبكة عنكبوتية.. ويقول ما يحلو له، سواء بشكل عفوي، أو بطريقة تحركها جماعات مصالح».
في شهر يوليو (تموز) من عام 2010، وصل لوزون، إلى طرابلس. كانت هذه المرة الأولى التي يشم فيها رائحة تراب الوطن منذ عقود. لقد أصبح رجلا له لحية وشارب، مثله مثل أقرانه الذين كان يلهو معهم صبيا في شوارع بنغازي. ويقول متذكرا تلك الأيام: «زرت بلدي، ووطني، ومسقط رأسي، ومحل ولادتي، ليبيا، بعد أن هُجِّرنا منها ظلما في أحداث 1967.. جئت في رحلة تاريخية مع الوالدة، وأختي. وكان أمرا طيبا».
وزار لوزون ليبيا في ذلك الصيف بدعوة شخصية من القدافي.. «كنت سعيدا جدًا بهذه الزيارة. ولقد بكيت وأنا أزور مُدن ليبيا وقُراها.. وبكيت وأنا أتفقد المناطق التي عشت فيها أنا، وأهلي، وأقاربي».
وحضر لوزون مرة أخرى إلى ليبيا في عهد القذافي في شهر سبتمبر (أيلول) من سنة 2010 أيضا، وذلك بدعوة جديدة من القائد الليبي، لحضور احتفالات «عيد الفاتح» في الأول من سبتمبر، حيث جرى استقباله رسميا.. وقابل القدافي، وقال له: أريد حقي في العودة إلى بلدي كمواطن ليبي، بكامل الحقوق والواجبات. فأجاب القذافي قائلا: أنا لم أطرد أي يهودي. وهذه الأحداث (خروج معظم اليهود من ليبيا) حصلت قبلي.
وحتى نهاية حكم القذافي، كان النظام السابق يدعي إنه لم يقم بطرد اليهود الليبيين، وإن خروجهم من ليبيا كان قبل تولي القذافي السلطة في 1969.
ومع ذلك تعود أول علاقة مباشرة بين نظام القذافي واليهود الليبيين، إلى عام 1992، وذلك مع بداية فرض الولايات المتحدة عقوبات وحصار على طرابلس الغرب، بسبب قضية لوكيربي. فقد ظهرت في تلك الفترة رغبة القذافي في كسر حظر الطيران الليبي من جانب الولايات المتحدة. وظهر معه اسم اليهودي الليبي الذي كان يقيم وقتها في إيطاليا، رفائيل فلاح، بغرض تنظيم رحلة جوية ليبية لزيارة القدس.
ويقول أحد قادة النظام السابق: كان لدى فلاح، حينذاك، علاقات قوية، لكنها غير مفهومة، بكل من القذافي، ومعارضيه، وشخصيات غربية. وزار العاصمة الليبية وتجول في ضواحيها القديمة عام 1993.
وبغض النظر عن ملابسات الماضي، فقد طلب القذافي من لوزون، في 2010، أن يقوم بالتنسيق في أمر عودته وعودة باقي اليهود الليبيين إلى وطنهم، مع كل من سليمان الشحومي (كان أمينا للشؤون الخارجية بمؤتمر الشعب العام الليبي)، وأبوة زيد دوردة (كان رئيسا لجهاز المخابرات الليبية). ويقول لوزون إن القذافي قال له أيضا: لا يوجد مشكلة في تسوية الملفات، وترتيب أوضاع اليهود الليبيين. وأخبره أنه أمر بتجديد وترميم المعبد اليهودي بالمدينة القديمة في طرابلس.
وفي الأيام التالية استقبل الشحومي لوزون في مكتبه، بحضور دوردة. وأخرج لوزون أوراق هويته الليبية القديمة الصادرة منذ العهد الملكي. وظهر منها أنه من مواليد 17 مارس (آذار) 1954. بمنطقة «سيدي حسين» في بنغازي، وهي نفس المنطقة التي ولد فيها الشحومي. كما أن أصل كل من عائلة الشحومي ولوزون يعود إلى مدينة مصراتة، الواقعة شرقي طرابلس. وقال لوزون في تلك الجلسة: «أريد الحصول على أوراق رسمية ليبية.. هذا حقي كمواطن ليبي».
وأثناء احتلال إيطاليا لليبيا، عمل جد لوزون كمستشار للزعيم المناوئ للاستعمار الأجنبي، رمضان السويحلي، أحد قادة مصراتة. وفي ذلك الوقت أصدر الطليان أمرا بالقبض على جده، بسبب دعمه للمجاهدين ضد الاحتلال الإيطالي، بالمال، وغيره، فهرب إلى بنغازي. وساند فيها أيضا حركة الجهاد. وفي خضم مطاردة الإيطاليين للوطنيين الليبيين، بمن فيهم اليهود في ذلك الوقت، اختفى كل من المطربة «بطة»، والشاعر «أبو حليقة».
ويقول لوزون: «جدي من يهود مصراتة، وحارب، منذ عشرينات القرن الماضي، مع رمضان السويحلي، ومع عمر المختار، ضد الطليان». وتوفي الجد، رفائيل، عام 1957 حين كان يعالج من المرض في مدينة ميلانو. أما والد لوزون فقد توفي عام 1994، وعمره 69 سنة، في إيطاليا، حيث ظل يحلم بالعودة إلى بلاده، دون جدوى.
ولدى قيادات يهودية ليبية، مثل إميل كحلون، وبنيامين دورون، قصص مريرة عن العسف الذي تعرض له يهود ليبيا، خاصة أثناء فترة احتلال إيطاليا (المتحالفة مع ألمانيا النازية) لليبيا، فيما مضى. وعلى سبيل المثال جرى اعتقال ما يزيد على ألفي يهودي ليبي، واحتجازهم في «معسكر جادو» قرب طرابلس، في بداية الأربعينات، حيث لقي نحو 600 يهودي مصرعهم في هذا المعسكر. كما جرى نقل أعداد أخرى من المعتقلين اليهود من ليبيا إلى معسكرات احتجاز في أوروبا.
وعلى كل حال أدت الانتفاضة المسلحة في 2011 إلى خلط كثير من الأمور بعضها ببعض. وأصبح من الصعب تحديد مدى الرؤية. فقد كان بعض المنتفضين ضد القذافي ينعتون الزعيم الراحل بأنه «من أصل يهودي»، وأن «والدته يهودية»، معتقدين أن هذا الأمر، في حد ذاته، كفيل بإثارة باقي الليبيين ضد حكمه، إلا أن هذا لم يكن صحيحا على الإطلاق، وفقا لشهادة مسجلة من أحد مساعديه، ووفقا لشهادات أخرى من أقربائه. فقد كانت والدته ابنة قبيلة معروفة في ليبيا، بغض النظر عما كان يروجه خصومه في 2011. خاصة من التيار الإسلامي المتشدد.
والغريب أن محاولة تصوير يهودية القذافي كـ«تهمة»، بغض النظر عن مدى دقتها، تزامن معها اعتماد المنتفضين، بمن فيهم قادة التيار الإسلامي، على الكاتب الفرنسي ذي الأصول اليهودية، برنار ليفي، للحصول على الدعم العسكري والسياسي من صديقه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ومن أصدقائه في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، للإسراع في إسقاط نظام القذافي.
وبالإضافة إلى صداقة اليهودي الفرنسي ليفي، بعشرات من «قادة الثوار»، ظهر ديفيد جربي، كأول قيادي يهودي ليبي يزور بلاده، في خريف عام الثورة. وكانت المرة الأولى التي يصل فيها إلى ليبيا منذ خروجه منها في ستينات القرن الماضي. وتوجه الرجل البالغ من العمر نحو ستين عاما، إلى مدينة طرابلس القديمة، وهو يرتدي قميصا أبيض مكتوبا عليه «أنا أحب ليبيا». وزار المعبد التاريخي لليهود الليبيين، المعروف باسم «دار بيشي».
وما زال مبنى هذا المعبد مهجورا كما كان عليه أيام القذافي، كأوضح دليل على أن كل شيء باق على ما هو عليه، بسبب الانقسام السياسي الذي يضرب ليبيا منذ اندلاع الانتفاضة ضد النظام السابق.
ومن جانبه زار لوزون ليبيا بعد مقتل القذافي، وذلك في عام 2012. وقصد مسقط رأسه في بنغازي، رغم انتشار المسلحين وقتها في كل مكان، وعدم معرفة نوع التوجه الجديد للدولة. ومع ذلك.. وبمجرد أن شاهد بحر بنغازي، اندفع إليه، وأخذ يسبح فيه كأنه يريد أن يعوض ما فات.
ويقول: حدث ذلك في شاطئ مصيف جليانة.. غطست للسباحة فرحا بعودتي لمسقط رأسي.. حتى الحرس المرافق لي طلب مني العودة، قائلين إن هناك خطرا، وإنهم لا يستطيعون تأميني في وسط البحر، فقلت لهم إنني لا أريد أي حماية، إنني أريد فقط أن أسبح في التاريخ، وأن أستعيد ما ضاع من أيامي.
ومثلما كانت أنغام الترانيم والأهازيج الشعبية تصدح في المهجر، في فندق بلدة كيبك الكندية، كان صوت الأغاني المشابهة يأتي من مسجل السيارة.
وتعد الموسيقى والأغاني الليبية الخيط الذي ما زال يربط ألوفا من اليهود الليبيين بوطنهم، بمن فيهم اليهود الذين يعيشون في إسرائيل. وكثير من هؤلاء يترقبون صدور أعمال فنية جديدة والاستماع إليها، بالإضافة إلى تحميل المقاطع الموسيقية الليبية القديمة من الإنترنت.
وبسبب انتشار تكنولوجيا الاتصال الحديثة، على نطاق واسع، ظهر جيل جديد من الشباب اليهود من ذوي الأصول الليبية وهم يعيدون تقديم التراث الثقافي الليبي في ثوب عصري، من بلاد المهجر، سواء في أوروبا أو إسرائيل، كما فعل المغني بيدي عطية، الذي تعود أصول عائلته إلى بلدة زوارة قرب طرابلس.
وعبر البريد الإلكتروني، يوضح يهودي ليبي يعيش في إيطاليا، اسمه موشيه، قائلا إن وطنه ليبيا.. «بلدي عرفته من حكايات أبي وأمي.. الحنين للعودة لا يفارقني. أتابع كل ما ينشر عن الليبيين بغض النظر عن السياسة والحدود. مطربي المفضل أحمد فكرون (ليبي مسلم من مواليد بنغازي)، ويانيف رابا (ليبي يهودي من مواليد إسرائيل).
ويعيش نحو خمسة آلاف يهودي ليبي في إيطاليا. وبرز من بين اليهود الليبيين قادة، ومسؤولون، ووزراء في البلاد التي يعيشون فيها، من بينهم روبرت خلفون، الذي كان وزيرا مفوضا في مكتب رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، وموشيه كحلون، الذي كان وزيرا وعضوا في الكنيست في إسرائيل. ومثل ما هو معروف عن اليهود حول العالم، ينشط معظم اليهود الليبيين في التجارة والاقتصاد والفنون.
ويقول لوزون: «سواء المولودون في ليبيا، أو المولودون من عائلات ليبية خارج ليبيا، ما زالوا يتحدثون اللغة العربية، ويتكلمون باللهجة الليبية، ويتزوجون بالطريقة الليبية، ويأكلون بالطريقة الليبية.. حياة كل منهم داخل بيته ليبية بالكامل».
ويفضل لوزون الاستماع إلى أعمال مطربين وموسيقيين ليبيين ولد معظمهم في مطلع القرن الماضي، منهم علي الشعالية، ومحمد صدقي، ولآخرين معاصرين مثل سمير الكردي.. كما يستمع للفن الليبي عموما، بشكل يومي، في البيت، وفي السيارة أيضا.. «اللحن الليبي هو ما يطربني، ويشدني، ويحرك وجداني».
وأيا ما كان شكل التطور الثقافي والاجتماعي – الذي ينمو بعيدا عن الأضواء المباشرة للحراك العام – يبقى التحرك السياسي محفوفا بالمخاطر. فاليهود الليبيون يفخرون بأنهم وقفوا مع إرادة الشعب التي رفضت استمرار حكم القذافي، لكن، وبعد مرور كل هذه السنوات، عادت إلى الأجواء نغمة معاداة اليهود الليبيين، ومحاولة منعهم من تقديم أي مبادرات للحل، رغم إصرار كثير منهم على ذلك.
إن هذا الأمر مثير لاستغراب كثير من اليهود الليبيين. لقد استعان الليبيون، بـ«ليفي» وهو فرنسي، فكيف يرفضون اليوم الاستعانة بأبناء وطنهم. ويتعجب رجل مثل لوزون من ترحيب قادة ليبيين بمبادرات من مبعوثين أمميين، منذ 2014 حتى اليوم، مثلما كان من الإسباني برناردينو ليون، والألماني مارتن كوبلر، ومثلما هو الحال الآن مع اللبناني غسان سلامة، وفي المقابل عدم الاهتمام بالمبادرات التي يتقدم بها اليهود الليبيون.
وبحسب رؤية لوزون، فإنه من المثير للحزن أن البعض «يعارض أن يقدم اليهود الليبيون مبادرات لحل الأزمة بين أهلنا.. نحن جزء من نسيج الشعب الليبي. ولا يمكن مسح تاريخ يهود ليبيا بقرار من هنا أو من هناك. نحن موجودون في ليبيا منذ أكثر من ألفي سنة، ولنا حق المواطنة في بلدنا. الدين لله، والوطن للجميع. نحن مع جميع الليبيين، ولسنا مع طرف ضد طرف آخر».
ومن بين المشاكل التي يعاني منها بعض اليهود الليبيين اليوم، عدم قدرة كثير من المسؤولين في الداخل الليبي على الإعلان عن وجود علاقات مباشرة لهم مع تلك الشخصيات اليهودية، التي ما زالت تعيش في الخارج. وظهر وجود إحباط كبير لدى شخصيات يهودية ليبية، من مثل هذه التصرفات، عقب انعقاد مؤتمر «رودس» في اليونان الصيف الماضي.
كان المؤتمر، الذي أشرف عليه لوزون، يدور حول حوار ليبي يهودي يسهم في تحقيق المصالحة الوطنية في البلاد، لكن ظهرت على السطح كتابات تنتقد المشاركين فيه، من يهود وغير يهود، وحذروا مما سموه «التطبيع مع إسرائيل».
ويصف لوزون مؤتمر رودس بأنه «كان ممتازا»، لكنه يقول إنه «كان هناك بعض الناس، حتى من غير العرب، أي من المافيا العالمية، ضد المؤتمر، وقالوا كيف ينجح هؤلاء اليهود في محاولة الصلح بين الليبيين، وهو أمر لم يتمكن من فعله سفراء وممثلو دول غربية عدة. وكيف تمكن هؤلاء النشطاء من يهود ليبيين، ومن يهود من أصول ليبية، من جمع كل هؤلاء، من يهود ومسلمين ومسيحيين، ومن وزراء وشخصيات معتبرة، ومن كل مكان، بينما نحن، كدبلوماسيين من دول كبرى، لم نتمكن من ذلك».
ويقول أحد المشاركين من القيادات الليبية في مؤتمر «رودس» إنه كان تجربة قابلة للتكرار، بغض النظر عن هجوم بعض من أصحاب المصالح الضيقة على فعالياته.. وحتى بالنسبة لشخصيات ليبية شاركت في هذا المؤتمر، وفي لقاءات أخرى مماثلة في إيطاليا وتونس والمغرب، كان هناك حرص لدى عدد منهم على عدم ذكر موضوع اللقاءات، أو الإشارة إليها، بمن في ذلك شخصيات كانت قد قدمت نفسها باعتبارها ممثلة لهذه الجهة في ليبيا أو تلك.
وحتى بالنسبة لبعض الإعلاميين الليبيين، ممن حضروا مؤتمرات ولقاءات من هذا النوع، قالوا، حين كتبوا، إنهم يحضرون بصفة شخصية لا مؤسسية. ويحاول سياسيون وكتاب التربح من هكذا مواقف حين يقولون إنه كانت لديهم تحفظات على عدم تحديد المؤتمر لموقف واضح من إسرائيل.
أما من كان لديهم موقف ثابت من عقد لقاءات مع اليهود الليبيين، فيقولون عادة إنهم يفعلون ذلك بهدف لم شمل الدولة الليبية، وفتح أبواب مع كل الليبيين بغض النظر عن دياناتهم. ومع هذا لم تسلم شخصيات عدة من مدينة مصراتة، أخيرا، من الانتقادات بسبب هذا الملف.
وفي البلاد التي استقر فيها ألوف اليهود الليبيين، منذ أكثر من خمسين عاما، لم يتخل معظمهم عن الملابس الليبية التقليدية. ومن هذه الملابس المميزة: «الشنَّة (الطاقية الحمراء)»، و«الجرد (رداء من الصوف)» و«الفرملة (صدرية مشغولة يدويا)».
وما زالت النسوة اليهوديات الليبيات في بلدان مختلفة حول العالم، يحتفظن بالزي التقليدي للمرأة، مثل الرداء ذي الخطوط، وأدوات الحلي كـ«الدملج» و«الخلخال». وفي كل احتفال يمكن أن تستمع إلى أهازيج شعبية ليبية تغنيها الفتيات وهن يقرعن الطبلة في الأعراس، مثلما كانت تفعل المطربة «بطة» في الجبل الأخضر: «اجعلك عشبة خضرا.. واحنينة على عريسك، وعلينا».. و«لا تخافي.. يا أم القد الوافي».. و«قال بوها يا بنتي، ما أسرع ما مشيتي». و«حلالك جاك، يا ميمة».
ويسعى اليهود الليبيون للحصول على قيمة الأملاك التي تخصهم في ليبيا. ويقول مصدر في المجلس الرئاسي: «أعتقد أن قيمة إجمالي العقارات والأراضي تبلغ مليارات الدولارات». وعلى العموم ظهرت لغة المطالبة بالتعويضات، أو استعادة الأملاك، من جانب بعض القيادات اليهودية الليبية، بعد أن بدأت كثير من الدول التفتيش في الدفاتر القديمة عن أملاكها في ليبيا الضعيفة، اليوم، ومنها تركيا، وإيطاليا، وفرنسا، وإسبانيا.
ومن الطرائف التي يتداولها قادة ليبيون في منتدياتهم، أن الإسبان ذهبوا بعيدا في أعماق التاريخ، حين قالوا إن لديهم وثائق عن أملاك إسبانية في طرابلس القديمة تعود إلى عام 1510 تقريبا، أي أثناء دخول القائد الإسباني بيترو نافارو، للمدينة. وبعد ذلك بأيام بدأ الأتراك ينقبون عن ملكيتهم لمبنى مدرسة «الفنون والصنائع» التي أسسوها حين كانت طرابلس ولاية عثمانية قبل مائة سنة. وأخذ الإيطاليون يطالبون بملكية مبان في العاصمة الليبية، منها كنيسة السيدة مريم. وعليه أخذ يهود ليبيون يطالبون بأملاك كثيرة خاصة بهم.
ومع ذلك، يبدو أن كثيرا من اليهود الليبيين يضعون على رأس أولوياتهم البحث عن مناخ في ليبيا يساعد على قيامهم بزيارة وطنهم بشكل آمن، وفتح مجالات للعمل في الاستثمار داخل ليبيا، والتجول فيها بحرية، وفتح أنشطة اقتصادية.
أما موضوع عودة كل اليهود الليبيين من الخارج للإقامة في ليبيا مجددا، فهو أمر ما زال بعيدا عن التفكير العملي، في ظل ظروف صنعتها أحداث معقدة عبر عقود.
ويقول لوزون: «ليس هناك يهود ليبيون يريدون العودة إلى ليبيا، لكن فقط للزيارة أو للاستثمار والاقتصاد والسياحة».
ويوضح: «اليهود الليبيون حين طردوا، تركوا أموالا في المصارف وأراضي. والدي كانت لديه أراضٍ، وشقق، وأموال في مصارف ليبية، وما زالت لدي الوثائق الخاصة بكل هذا حتى الآن. أقول إن معظم اليهود الليبيين لا يطالبون بتعويضات، ولكن فقط يطالبون برجوع الأموال التي تخصهم. الآن من حق أي ليبي تمت مصادرة أمواله، أن يقوم باسترجاعها».
وعلى الجانب الآخر، وبموازاة كل تلك التجاذبات، دخل رجال أعمال من اليهود الليبيين ممن ما زالوا يعيشون في بريطانيا وإيطاليا وغيرهما، في شراكات مع رجال أعمال ليبيين، لإقامة مشروعات تجارية في طرابلس، منها مشروع تبلغ كلفته نحو نصف مليار دولار، لتأسيس فنادق ومراكز تجارية قرب البحر.
وبمرور الوقت، وكثرة الجدل حول الموقف من يهود ليبيا، بدا في الأسابيع الأخيرة أن الخوف من الإعلان صراحة عن وجود تعاون على الأصعدة المختلفة مع شريحة من أبناء ليبيا، لم يعد يتطلب المداراة، خاصة مع تردي الأوضاع التي تمر بها البلاد، وتحولها إلى ما يشبه حقل تجارب لدول ومبعوثين من الغرب والشرق.
فحين احتدم النقاش قبل أيام بين اثنين من مسؤولي حكومة الوفاق عن التصريح بأمر الاستعانة باليهود الليبيين، فيما يتعلق بتطوير التعليم، كانت الإجابة: هم أبناء ليبيا. يريدون الخير لوطنهم.. وهم لديهم رابطة معترف بها، ولهم معبد علني في طرابلس. فلماذا نخفي الحقيقة؟
لقد أدى مؤتمر «رودس»، إلى تقليب النظر في كثير من الأمور، منذ عقده الصيف الماضي حتى الآن. وفي الوقت الحالي يقوم لوزون مع نشطاء آخرين، بالتحضير لمؤتمر جديد، قد يعقد في المغرب، في خريف هذا العام، أو ربيع العام المقبل.
ويقول: المؤتمر المقبل قد يكون في المغرب، وسيكون هناك 30 متحدثا من الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وأكثر من 150 مشاركا. لن يكون فيه سياسة.. الحديث سيكون فقط عن التعايش السلمي، وعن الحوار، وعن أن الحل في ليبيا هو التعايش لا الاقتتال.
ويضيف أن المؤتمر المزمع سيضم محاورين على مستوى رفيع من ليبيا، وأن الأمر لن يتعلق بموضوع الأقلية اليهودية الليبية فقط، ولكنه سيتطرق إلى باقي الأقليات في ليبيا، مثل الأمازيغ، والتبو، والطوارق. الهدف احترام الأقليات من كل دين، ومن كل جنس، ومشاركة جميع أبناء ليبيا في بناء مستقبل بلدهم.